بينما يزين العوام العاديون خلفية اللوحة المرسومة للتاريخ يظل الأقوياء يتصدرون واجهة اللوحة ،أولئك الذين شيدوا وبنوا العمران والمدن وخاضوا المعارك الفاصلة ،وبين أيديكم في هذا المقال على موقعنا معلومة مفيدة ملك من أقوى الملوك الكلدانيين حكم بلاد الرافدين خلفا لأبيه وتمكن من هزيمة الفراعنة والآشوريين وأنهى حكم يهوذا وأحكم قبضته على أورشاليم بحصار هو الأطول في التاريخ انتهى بأسر حكام المدينة وحرق هيكل سليمان ،نستعرض في هذا المقال لمحة عن مولد بختنصر ونشأته وأهم المعارك التي خاضها وكيف شيد العمران لتخليد مجده
بختنصر
- اسم بختنصر الحقيقي (نبو كودور أوصور)؛ وهو ما ذكرته المصادر العربية.
- أطلق عليه الفرس اسم (بختنصر) بينما أطلق عليه المؤرخون والأكاديميون اسم نبوخذ نصر الثاني.
- ولد نبوخذ نصر الثاني في الجنوب حيث قضى والده جزءاً كبيراً من حياته في جنوب البلاد ثم انتقل مع والده (نبو بلاسر) إلى بابل خلال فترة حكمه.
- لنبوخذ نصر أخ أصغر منه يدعى نبو شوم؛ أشار والدهما إلى أنه أشركهما في بناء صرح بابل
- لم يحظى أخوه بنفس المكانة ولكنه ربما كان قائداً عسكرياً أو يتقلد أحد المناصب الإدارية في الدولة.
عائلة نبوخذ نصر
- تزوج نبوخذ نصر الثاني من الأميرة الميدية (أميديا) وذكر اسمها في مصادر أخرى (أموهين)؛ وكان زواجه منها لزيادة التحالف بين الدولتين بابل وميديا بعد هزيمة الآشوريين وكان هذا الزواج قبل سقوط نينوى بعامين ولكن النصوص البابلية لم تشر إلى هذا الزواج مما جعله محل شك، فيما وقد ذكرت بعض المصادر التاريخية الكلاسيكية أن نبوخذ نصر الثاني قام ببناء حدائق ببابل المعلقة إدخالاً للسرور على قلب زوجته الميدية.
- تشير بعض المصادر والمراجع التاريخية إلى أنه تزوج من ابنة الملك الفرعوني نيخو من أجل الحلف وتعزيز المصالح وذلك حسب الإشارات التاريخية الواردة من المؤرخ هيرودوت.
- لنبوخذ نصر الثاني ولد يدعى (أميل ماردوخ) وهو الذي خلَف والده في حكم بابل لمدة سنتين (562-560 ق.م)، ثم قُتل على يد زوج أخته نركال شاراومر فى مؤامرة دبرها له من أجل الاستيلاء على العرش؛ واستمرت فترة حكم ابنه ست سنوات (560-556ق.م)، كما له خمسة أبناء آخرين وثلاثة بنات تم ذكر أسمائهم في المصادر التاريخية.
هزيمة بختنصر لملك مصر
- هزم نبوخذ نصر الثاني ملك مصر نخاو الثاني في موقعة كركميش سنة (610 ق.م) والتي وقعت بتحالف مللك مصر نخاو الثاني مع المتبقي من الآشوريين المهزومين، وكان وقتها قائداً في جيش أبيه (نبو بلاسر) والذي خلفه في تولي عرش مملكة بابل وكانت هذه المعركة سبباً في استحواذه على ثقة أبيه.
- كان بختنصر شديد الطموح في الاستحواذ على مصر وبعدما حقق انتصارا في معركة كركميش واصل مسيرته حتى وصل إلى الحدود المصرية عند دلتا النيل بعد إحكام سيطرته على سوريا، وهناك وصلته أخبار عن وفاة والده وكان وقتها ولي عهد البلاد وكان ذلك عام (605 ق.م) بحسب إشارة يوسفوس.
- استغرقت رحلة العودة إلى بابل ثلاث وعشرين يوماً عمد فيها نبوخذ نصر الثاني إلى ترتيب الجيش في الجبهة الغربية، وأناب عنه قيادات في الجيش لتسيير أموره، وكذلك عين القادة للقيام على شئون الأسرى من اليهود والسوريين والآشوريين وذلك من أجل المشاركة في مراسم دفن أبيه.
- تولى بختنصر زمام الحكم وهو شاب؛ في العقد الثالث من عمره وقد كان يمتلك الكثير من الخبرات الإدارية والعسكرية.
- حينما تولى نبوخذ حكم البلاد كانت الأوضاع هادئة في بابل فلم يلق أي نوع من أنواع العصيان المدني وذلك لما اكتسبه من سمعة حسنة لقوته العسكرية وذكائه، ولكن بعض المصادر التاريخية رجحت بأن عودته السريعة ربما تكون لمخاوفه من مرشح أحد الكهنة.
الحملات العسكرية التي قادها بختنصر
تركزت أكثر الحملات العسكرية في سوريا؛ والتي كانت تحت سيطرة الامبراطورية الآشورية قبل أن يسيطر عليها الكلديين وفي هذه الفترة ازدادت مخاوف مصر من سيطرة الكلديين على سوريا مما يهدد تجارتها في الشام، فتقدمت جيوش مصر إلى داخل سوريا إلى أن هُزمت في معركة كركميش.
بعدها حاول فرعون مصر إعادة غزو سوريا مرة أخرى ولكن كل المحاولات بائت بالفشل حتى أصبحت المنطقة بأسرها من الفرات إلى مصر تحت سيطرة الكلديين.
يبدو أن أورشليم لم تكن ترحب بالملك القاسي الذي لا تستعصي عليه الجيوش، وتعلي صرخات الاستغاثة تستجدي العون من فرعون مصر المهزوم الذي تهاوت قوته أمام الحاكم الكلدي القوي ومن أهم المدن التي أعلنت العصيان هي عسقلان التي تخضع للحاكم يهوذا، وصل نبأ العصيان إلى بابل قبل صرخات الاستغاثة بفرعون مصر فكان مصير العصيان غير محمود؛ تم أسر العديد من القادة والملاحين والنبلاء والعامة وإرسلهم إلى بابل جزاءاً لعصيانهم، واقتصرت تحركات نبوخذ نصر الثاني عام(602ق.م ) إلى سوريا على جمع الجزية المطلوبة بعد خضوعهم لسلطته، ثم تكررت الحملات للاطمئنان على استقرار المنطقة وتثبيت الملك الكلدي نفوذه على سوريا.
وبحسب المصادر التاريخية فإن هناك معركة مفتوحة دارت بينه وبين الفرعون المصري تكبد فيها الطرفان خسائر فادحة، وهو ما شجع (يهوقايم) على العصيان الذي انتهى بهزيمته.
حصار أورشليم والقضاء على مملكة يهوذا
مر حصار أورشليم بثلاث مراحل:-
- في العام الثالث من حكمه أسر (يهوياقيم) ملك أورشليم، واستولى على بعض الآنية من بيت المقدس، ثم أمر بتعليم الكلدانية لبعض الفتيان من أجل المكوث في البلاط الملكي، ومن المعروف أن اللغة لم تكن تستخدم فى التواصل فحسب بل من أجل إحكام السيطرة على الشعوب، وكان من بين هؤلاء الذين تعلموا الكلدانية النبي دانيال والثلاثة فتية.
- وفي العام الرابع من حكمه وبعد خلافته لأبيه أفرج عن (يهوياقيم) وتصالح معه على الجزية فلم يكن من عادته تخريب المدن كما اشتهرت فترات حكمه بحرية الممارسة الدينية إلى حدٍ كبير.
- وفي سنة 597 ق.م والتي تزامنت مع العام الثامن لحكمه قام بحصار أورشليم فاستسلم ملكها يهوكاين، وقام نبوخذ نصر الثاني بنهب المدينة وسبي أهلها وكان عددهم عشرة آلاف نسمة، وقام بتعيين عم يهوكاين خلفاً عنه وأطلق عليه اسم صدقيا
- وفي السنة التاسعة من حكم صدقيا والتي وافقت سنة 588 ق.م قام بحصار أورشليم من الشهر العاشر إلى الشهر الرابع من السنة الحادية عشرة لحكم صدقيا.
- هرب صدقيا بعد أن فُتحت أبواب المدينة، ولكن جيوش الكلدانيين ألقوا القبض عليه وقدموه إلى نبوخذ نصر الثاني في مدينة (ربلة) مقيداً بسلاسل من النحاس، فقتل نبوخذ نصر الثاني أبناؤه أمام عينيه ثم فقأ عينيه واقتيد إلى بابل.
- أحرق نبوخذ نصر الثاني هيكل الرب وحطم أسوار المدينة وأسر أهلها وقتل قادتها وتم القضاء على مملكة يهوذا
العمران في عهد بختنصر
بعد أن فرغ نبوخذ نصر الثاني من معاركه واطمئن لفرض السطوة والولاء والطاعة عاد إلى بابل لتعمير البلاد ومعه الأسرى بعد أن أخضع الممالك لحكمه فشيد القصور المزخرفة والمصانع فأصبحت بابل ذات حضارة يُضرب بها المثل في التاريخ وأرخ لذلك هيرودوت في سياحته للمدينة في القرن الخامس قبل الميلاد، وكان الأسرى يتولون المناصب العُليا في عهده ومثال على ذلك أن النبي دانيال كانت له كلمة مسموعة داخل البلاط.
ويذكر النبي دانيال أن بختنصر كان حاكماً رشيداً ذو همة عالية؛ لكنه أصيب بالعجب والكبر في آخر أيامه وأخذ ينظر إلى بابل وكأنها لوحة رسمها؛ وأخذ يقلبها بين كفيه معجباً ويقول لمن حوله انظروا إلى جمال ما رسمت وصنعت بنفسي فنزل عليه وحي من السماء بأنه سيعاقب بالتيه والشتات سبع سنين، فهام على وجهه في الصحراء حتى عاد إليه رشده واسترد ملكه من بعل بسروق الذي خلفه في هذه المدة.
ويعتبر نبوخذ نصر هو الذي أعلى اسم بابل عالياً وتعني: (باب الإله) أو (باب الآلهة) وهناك مصادر بأنها تعني في السامورية (موطن الحياة)، ولكن ارتبط اسم بابل ببختصر لما أحيا فيها من عمران ومباني مزخرفة وأسوار وقصور هو وأبوه نبوبلاسر.
قصور بابل
يعتبر القصر الجنوبي من أهم المعالم التي شيدها بجانب قصر أبيه وتم تخصيصه ليكون المقر الرسمي للملك ،تبلغ مساحة القصر الجنوبي ( 310 *200م) وهو يحتوي على العديد من الحجرات، ويوجد به خمس ساحات كبرى بالإضافة إلى عرش الملك الموجود في الجدار الجنوبي؛ تم وضع حجر الأساس لهذا القصر في عهد أبيه نبو بلاسر وعاش نبوخذ نصر فيه مع أبيه، بناه باللبن وتم توسعته والإضافة إليه في عهد نبوخذ نصر الثاني
أما القصر الصيفي فقد سماه (قصر حياة نبوخذ نصر) واستخدمه بغرض الحماية والدفاع عن المدينة كما كتب في أحد النصوص التي تم العثور عليها في الموقع، ولم يتم العثور على صورة تفصيلية للقصر نظراً للأعمال التخريبية التي طالت المدينة فيما بعد، ولكن بصفة عامة يعود الازدهار المعماري في بابل إلى الكلديين وبصفة خاصة أبرزهم نبوخذ نصر الثاني؛ وقد كان ملكاً عظيماً لولا ما لحقه من آثام نتيجة لأعمال السبي البابلي المعروفة في أورشليم.
ولمزيد من الحماية أحاط المدينة بسورين عظيمين سور داخلي وخارجي ،يتكون السور الخارجي من ثلاثة أجزاء ويبلغ محيطه 18-20 كم، ويتكون السور الداخلي من جدارين ويبلغ طوله 8كم.
كما أسس بوابة عشتار والتي هي مدخل المدينة من الجزء الشمالي، وكذلك شارع الموكب والذي يعد الشارع الرئيسي في مدينة بابل؛ وهو يعتبر الطريق المقدس الذي يؤدي إلى أماكن الاحتفالات الدينية للمدينة، وكذلك معبد الإله مردوخ والذي يقع ضمن المنطقة المقدسة للمدينة صرح الزقورة أو برج بابل ويقع شمال معبد الإله مردوخ وهناك مصادر تشير إلى وجود هذا البرج من قبل عهد نبو بلاسر، ولكن تم استحداثه وإعادة تشييده.
نبوخذ نصر في الكتاب المقدس
- في الإصحاح الرابع من سفر دانيال يروي بختنصر حلمه الذي أفزعه بينما هو منعماً في قصره فأحضر المعبرين لعلهم يفسرون له رؤياه التي كدرت عليه نعيمه، ويحكي لنا النبي دانيال أن الرؤية كانت عقاباً له على كبره وغطرسته في أيامه الأخيرة فامتدت له يد الله حتى يعود إلى رشده ويرجع عن عجبه.
- طلب بختنصر تعبير الرؤية من بلطشاصر الذي هو دانيال كبير المجوس؛ حيث اعتقد أن فيه روح الآلهة.
- ورؤيته كانت شجرة عظيمة وطويلة في وسط الأرض، اجتمعت عليها الطيور، وأكل منها البشر، واستظل بها الحيوان؛ أوراقها مزهرة؛ وثمارها يانعة؛ وإذا بصوت مهيب ينزل من السماء كالصاعقة يأمر بقطع الشجرة وقلع ثمارها، ونثر أوراقها، وبذر ثمارها، فيهرب كل حيوان كان يستظل تحتها وكل بشر، ثم يأمر بترك الساق في الأرض مقيدة بالنحاس والحديد في العشب فيصيبه ندى السماء، وانتقل الكلام من الشجرة إلى مسامع إنسان فأمر الصوت المهيب المقدس أن يعطى قلب حيوان ويظل على ذلك الحال ليعلم أن الملك بيد الله يعطيه من يشاء ويسلبه ممن يشاء.
- وفسره دانيال بأنه حكم الله قد نزل على الملك بأن تكون سكناه سبع سنين مع حيوان يتيه ويأكل العشب مع الثيران، يجن ويحسب أنه حيوان، وهذا الساق الثابت في الأرض هو ملكه يسترده حين يعلم أن الرب هو المتسلط يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء.
- وقد ورد ذكر بختنصر في كتاب تاريخ الطبري حيث بدء نزول العرب إلى أرض العراق وبالتحديد في الحيرة والأنبار حيث اتخذوها منزلاً؛ فأوحى الله إلى برخيا أن يأتي بختنصر ويأمره ليغزو العرب؛ ويأخذ أموالهم غنيمة، فهم كفروا بالله واتخذوا الآلهة من دونه.
- قدم برخيا على بختنصر فقص عليه ما أخبره الله به، فهب بختنصر لقتال من كان في بلاده من العرب القادمين بالتجارة، وأسر منهم من أسر وبنى لهم حصناً في حيرا على النجف وعين عليهم حرساً، فأتت إليه طوائف منهم مسالمين فاستشار برخيا فقال أقبل منهم فأنزلهم بختنصر على شاطئ الفرات وبنوا معسكرهم فسموه الأنبار.
كيف مات الملك بختنصر
في سياق متصل بموضوع حديثنا اليوم يبحث البعض عن سبب وفاة نبوخذ نصر وهو ما سننتقل معكم لتوضيحه عبر الأسطر التالية:
- سقطت القدس في يد بختنصر وقد كان هذا بأمر من المولى عز وجل فقط سلطه الله تعالى على بني إسرائيل كعقاب لطغيانهم.
- وقد أصبحت مدينة بابل في عهده من أقوى الامبراطوريات في العالم؛ ولما حدث هذا أصاب بختنصر الكبر وجنون العظمة.
- قد ذكرت المصادر التاريخية أن نوبة الجنون التي أصابته دامت لسبع سنوات
- من بعد مرض ألم به توفى في بابل عام 562 ق.م، بعد ثلاثة وأربعين عاماً قضاهم في حكم البلاد.
- حكمه بختنصر هو الأطول في سلالته، وقد ظل اسمه محفوراً في ذاكرة التاريخ مقترنا باسم بابل.
أثارت شخصية بختنصر الكثير من الجدل بين المؤرخين حول ماهو حقيقي عنه وما هو غير حقيقي، فبينما هو في ذاكرة بابل الملك العظيم الذي شيد عمرانها، وبنى فيها حياة مزخرفة بالقصور والبناء والحصون كان ذكره في الكتاب المقدس على أنه ملك ظالم سلب أورشليم كما هو مذكور في هذا المقال من معلومة مفيدة ونحن نقرأ التاريخ لا لنعيده بل لننقحه ونستفيد منه، فنعيد ايجابياته وننحي سلبياته ،وكل شخصية أثرت بين سطورة هي مصدر إلهام لنا في حاضرنا.
المصادر